من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض

2 أغسطس 2021آخر تحديث :
من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض
من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض

تركيا بالعربي

من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض

لقد نجح الإنسان في توظيف جوف الأرض لخدمته بأكثر من طريقة، تعد أهمها شبكة المواصلات السريعة التي توفر له الوقت والجهد، ولكن يبقى سؤال: إذا كان سطح الأرض الصالح للحياة البشرية قد ازدحم، فهل هناك خيار أن نبني لأسفل بدلًا عن أعلى؟

هناك الكثير من ناطحات السحاب في المدن الأوروبية، والعديد من المدن المزدحمة التي تلتصق فيها المنازل ببعضها، فهل تكون الحياة تحت الأرض حلًا للكثير من المشاكل السكانية، ومشاكل الإنسان المعاصر؟ في الواقع هناك بعض التجارب حول العالم التي رأت أن الإجابة عن هذه الأسئلة قد تكون بنعم، وفي هذا التقرير نأخذكم في رحلة إلى بعض الأماكن التي استخدم فيها البشر جوف الأرض للمعيشة، أو لأغراض أخرى.

1- كوبر بيدي.. 60% من سكانها تحت الأرض
في العام 1914 كان هناك مراهق يسير في أحد المناطق النائية بجنوب أستراليا، ودهس بقدمه شيئًا صغيرًا على الأرض، التقطه ليكتشف أنه حجر كريم، ومنذ هذا اليوم ظهرت حياة مدينة «كوبر بيدي»، وهي مدينة حارة وبعيدة عن المدن العامرة، ويسكنها بضعة آلاف مواطن، والآن بسبب غرابتها وتميزها يزورها العديد من السائحين محبي الأحجار الكريمة، ومن لديهم الفضول في تجربة العيش تحت الأرض.

من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض
من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض

معظم الأحجار الكريمة في العالم تأتي من تلك المدينة الصغيرة النائية، والتي لا يحتكرها أيٌّ من شركات التعدين الكبيرة؛ الأمر الذي يجعل التنقيب واحدًا من النشاطات السياحية التي يمارسها زوار تلك المدينة، فيمكن لأي سائح استئجار أجهزة تنقيب وعمال ويحصل على تصريح تنقيب من المدينة، ويبدأ في رحلة البحث عن الكنز، وحتى السياح الذين لا يملكون استئجار المعدات وعمال المناجم، يمكنهم أن ينقبوا بأيديهم عبر أكوام الأرض التي حُفرت من قبل في رحلات البحث الاستكشافية عن الأحجار الكريمة، وقد صرح أحد السائحين من قبل لجريدة «تليجراف» أنه وجد بيديه في أرض «كوبر بيدي» أحجارًا كريمة تكفي لشراء منزل جديد في موطنه.

في العام 1858 سميت المدينة بتسم «حقل ستيورات للاحجار الكريمة» وكان هذا تكريمًا للمسكتشف الأسكتلندي، والذي اكتشف هذا الجزء من أستراليا، وبعد عدة سنوات في العام 1920 أعيدت تسمية المنطقة بـ«كوبر بيدي»، وهي تعني «الرجل الأبيض في الحفرة»، وهذا يرجع لطبيعة المعيشة التي اختارها سكان تلك المدينة.

من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض
من ليبيا إلى الصين.. مدن يعيش سكانها تحت الأرض

«الحانات، والمطاعم، والفنادق، والكنائس والبيوت كلها تحت الأرض، وهكذا يعيش سكانها وأطفالها ويكبرون، هم ليسوا رجال كهوف، وإنما إناسًا عاديين اختاروا العيش بطريقة مختلفة لمدة تزيد عن قرن»؛ هكذا صرحت الصحافية والمصورة تامارا مارينو متحدثة عن تجربة زيارة تلك المدينة، والحديث مع سكانها وزوارها، وتصوير أهم المناطق بها.

منذ عام 1915 وأصبحت تلك المدينة مصدر لثراء سكانها وزوارها، ولكن على الجانب الآخر كان طقسها قاسيًا عليهم، فأحيانًا يكون شديد الحرارة لدرجة الاحتراق، وأحيانًا أخرى شديد البرودة لدرجة التجمد، هذا بالإضافة إلى العواصف الترابية التي تهاجم المدينة من الحين للآخر، وتعرض حياة سكانها للخطر، ولذلك لجأ سكان المدينة لبناء منازل ومرافق خدمية على بعد عشرات الأمتار تحت سطح الأرض، حتى توفر لهم درجات حرارة ثابتة ومريحة.

شاهد مجموعة من المنازل في كوبر بيدي من هُنا.

«لن تحتاج لتدفئة أو تبريد للجو.. إنها حياة مسالمة وعندما تجربها لن تريد العيش في المنازل العادية مرة اخرى»؛ هكذا صرح واحد من سكان تلك المنازل لشبكة «بي بي سي» مؤكدًا أن تلك الطريقة التي اختاروها للعيش ربما تكون في بدايتها كانت هروبًا من الطقس والعواصف، ولكنهم فيما بعد أدركوا مميزات تلك الحياة الهادئة.

2- منازل الحُفر ..إرث معماري يحمي سكان ليبيا من الطقس
في منطقة تقع ضمن القسم الشمالي الغربي من ليبيا على طول امتداد الجزء الأوسط للجبل الغربي، يعيش آلاف البشر في مدينة غريان المنحوتة في باطن الجبل وتحت سطح الأرض، تلك المدينة التي يطلق على بيوتها «منازل الحُفر»؛ هي إرث معماري ورثه الليبيون عن أجدادهم منذ مئات الأعوام، وهؤلاء السكان القدماء نحتوا تلك المنازل تحت الأرض بمواصفات معمارية مدهشة جعلتها تصمد أمام عوامل الزمن والطبيعة حتى الآن لتمنح سكان مدينة غريان حماية طبيعة من قسوة الطقس الحار في الصيف، والبرودة القارسة في الشتاء.

شاهد بيوت الحُفر من هنا.

ويرجح أن تلك النوعية من المنازل تُبنى في ليبيا بأكثر من منطقة، وليس مدينة غريان فقط منذ ما يزيد عن ألف عام، وتحكي عائشة المليان، أستاذ التاريخ وأحد سكان المدينة إلى موقع «سبوتنيك»، أن المنزل يتكون من الحوش وهو الفناء الداخلي ويتم حفره بعمق من ثمانية إلى 12 مترًا تحت الأرض، ويطل على الفناء مجموعة من الفراغات المحفورة، وتسمى ديار وتتراوح مساحتها من 10 إلى 20 مترًا مربعًا للفراغ الواحد، مع حفر منحدر للسقيفة كمدخل للبيت من مستوى سطح الأرض مؤكدة أن بيوت الحُفر تتمتع بالحماية من السيول عن طريق استخدام نواتج الحفر في بناء حزام، أو حاجز يسمى «الكدوة» حول الفناء لمنع دخول مياه السيل للبيت، كما يوجد حفرة في مدخل كل بيت لاستيعاب مياه الأمطار.

وما يميز تلك المنازل أنها لا تحتاج تدفئة في الشتاء، ولا وسائل تبريد أو تكسف في فصل الصيف، بل إن البعض يستخدم الأغطية في فصل الصيف حينما تكون درجة الحرارة فوق سطح الأرض 40 درجة، فتحت الأرض يكون الطقس أكثر اعتدالًا في هذه المنازل، بالإضافة إلى قدرة سكانها على النوم دون أغطية في فصل الشتاء عندما تكون درجات الحرارة شديدة البرودة.

ويسكن في منازل الحُفر أكثر من أسرة، وقد يصل سكان البيت الواحد إلى ثماني أسر ينحدرون جميعهم من سلالة واحدة، وكل أسرة عادة ما تستخدم ثلاث غرف بها مطبخ يحتوي على فرن من الطين، وهناك أيضًا مكان للاستراحة، وآخر لتناول الطعام، ومكان لتخزين الحبوب والمياة، ومكان مخصص للملابس، وبهذا نرى أنه يعد منزلًا مجهزًا مثل أي منزل آخر فوق سطح الأرض.

ومن النماذج التي لا تزال موجودة حتى الآن ويتهافت على تصويرها الكثير من وسائل الإعلام، هو حوش عائلة العربي بلحاج في منطقة «أبو غيلان»، والذي بُني في عام 1666 ميلادي، والذي تعيش فيه ثماني عائلات موزعين على ثماني غرف، إلى جانب 30 حوشًا لازالوا صالحين للمعيشة في منطقة «بوحمامة». ويقول الرحالة السويسري هانس فيشر عن تلك المنازل في كتابه «عبر الصحراء الكبرى» أنه «خلال الاحتلال الروماني وصلت جماعات عديدة من اليهود في ليبيا، وما زال أحفادهم يتجمعون في معابدههم المشيدة تحت سطح الأرض في غريان»

وهناك مصادر تاريخية تقول إن غريان هي في الأصل كلمة أمازيغية عائدة على اسم قبيلة كانت تعيش في تلك المنطقة الجبلية، وهذا يعود إلى أن هناك أكثر من مكان داخل غريان ذو مسمى أمازيغي، وهناك تفسير آخر يقول إن كلمة غريان هي غريال، والتي تعني «أرض الطين» في واحدة من اللغات القديمة للبربر، وحُرفت بعد ذلك لتكون غريان، ورأى المؤرخون أن هذه الرواية هي الأكثر منطقية، خاصة أن غريان عبارة عن أرض جبلية من الطين.

3- ظاهرة «قبائل الفئران».. وحدات سكنية الأرض في بكين
بكين عاصمة الصين يعرف عنها ازدحامها الشديد، التكدس السكاني بها، ولذلك هناك الكثير من المواطنين لا يمكنهم تحمل نفقة إيجار المنازل المعتادة المبنية تحت الأرض، ولذلك لجأ هؤلاء المواطنون والذي يطلق عليهم الإعلام في الصين «قبائل الفئران» إلى حل غير اعتيادي.

ليس هربًا من حرارة الطقس أو برودة، بل هربًا من الزحام والفقر، يعيش هؤلاء المواطنين الصينيين تحت مدينة بكين في منازل تحت سطح الأرض مكونة من الطوابق السفلية وملاجئ الغارات الجوية في بكين. «بالطبع هي ليست مريحة مثل المنازل الطبيعية.. ولكنها أرخص وأوفر»؛ هكذا صرح واحد من سكان تلك المنازل في تقرير مصور عن هذا الشأن.

شاهد منازل تحت الأرض في بكين هُنا

عادة ما يكون العمال المهاجرون غير قادرين على تحمل تكاليف السكن الخاص، وبدون تصريح الإقامة الرسمي المعروف باسم «الهوكو»، لن يتمكنوا من الحصول على سكن حكومي منخفض التكلفة، لذلك يجدون أنفسهم يعيشون تحت الأرض، وتشير التقديرات إلى أنه قد يكون هناك أكثر من مليون شخص يعيشون تحت العاصمة الصينية.

عملت المصورة الفوتغرافية سمشي ين على توثيق حياة سكان تحت الأرض في بكين لمدة خمس سنوات، وعندما كتبت شهادتها عنهم قالت إنها قبل مقابلتهم كان لديها حدس أنهم مجرد أناس عاديين واجهوا ظروف مادية صعبة، مؤكدة أنهم بالرغم من حياتهم الصعبة تحت الأرض يتمتعون بروح مرحة ومعظمهم من الشباب الذي يتطلعون لصعود السلم الاجتماعي في الصين، وأوضحت أن الحياة هناك ليست قاسية كما يتصورها البعض، فهم في الشتاء يشعرون أنهم محظوظون؛ لأن الطقس يكون أكثر دفئًا عليهم من الذين يعيشون فوق سطح الأرض، ولكنها أيضًا أشارت إلى أن مساحة البيوت تحت الأرض في بكين تعد «مثيرة للشفقة»، وعلى الرغم من ذلك فهؤلاء السكان يحاولون استغلالها الاستغلال الأمثل.

بسبب ما يمر به كوكب الأرض من تغير مناخي، وزيادة سكانية، ليس من الغريب أن نتخيل أن تكون الحياة تحت سطح الأرض حلًا للعديد من المشكلات التي تواجه البشر الآن، والسكن تحت الأرض من التجارب التي ذكرناها في التقرير عادة ما تكون إيجابيتها أكثر من سلبياتها، فهل يأتي اليوم الذي تعيش فيه نسبة كبيرة من سكان الأرض تحت سطحها؟ وهل أنت عزيزي القارئ على استعداد للعيش في واحدة من تلك المنازل؟

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.