هل أنت مستعد لاستقبال ما هو آت؟ (دروس من قصة طالوت وجالوت 2)

6 يونيو 2019آخر تحديث :
ياسين أقطاي
ياسين أقطاي

هل أنت مستعد لاستقبال ما هو آت؟ (دروس من قصة طالوت وجالوت 2)

بقلم ياسين أقطاي

تضمن حكاية طالوت وجالوت الواردة في سورة البقرة كل الدلائل الخاصة بالنموذج النمطي لأولئك الراغبين في تعيين قائد لهم يتلفّون حوله وحالتهم النفسية وعدم إعجابهم بذلك القائد عندما يأتيهم.

لم يقبل بنو إسرائيل بنبي الله عيسى عليه السلام الذي أتاهم في وقت كانوا ينتظرون مسيحا أو رسولا من عند الله، بل إنهم لم يتورعوا عن التسبب له بكل أنواع المعاناة. ولقد رفضوا، بل قتلوا، الأنبياء التي أرسلت إليهم لأنهم كانوا بشرا عاديين من بين أفراد قومهم، ذلك أنهم كانوا يرونهم يأكلون الطعام ويمشون في الأسواق ولا يظهرون أي معجزة وليس معهم ملائكة يدعمونهم.

ولقد جاءهم عيسى عليه السلام كمعجزة للرد على كل هذه الانتقادات؛ إذ كان ميلاده معجزة في حد ذاتها، كما كانت له معجزات أخرى مثل إحياء الموتى وإبراء الأبرص وشفاء الأعمى، كما كان كلامه مؤثرا ومليئا بالحكمة، لكنهم لم يكتفوا بالتحجج بالكثير من الحجج لرفض ذلك النبي، بل إنهم حاولوا قتله عن طريق صلبه.

وبالرغم من كل ذلك لم يفقد بنو إسرائيل وكذلك النصارى لاحقا الأمل في ظهور المسيح ذات يوم، ذلك القائد الذي يجمع حوله الأشخاص الفضلاء لينقذ العالم. وعندما شرف العالم بقدوم نبينا صلى الله عليه وسلم، كانت هاتان الدينتان وأهالي مكة الذين كانوا على علم بتعاليم هاتين الديانتين ينتظرون ظهور نبي جديد. هذا فضلا عن أنه عندما جاء هذا النبي كانوا “يعرفونه كما يعرفون أبناءهم”، لكن هذا لم يكف ليتبعه معظمهم. وأما ما منعهم من أن يعترفوا بنبوته فهو أنهم كانوا يعتبرون أنفسهم أجدر بهذه الرسالة. فكيف يمكن لشخص أمي لا ينتسب لبني إسرائيل أن يختار لهذا الشرف؟

بيد أن الله كان يهب من يشاء العلم والملك، وما كان متوقعا من الذين يعرفون الله حق المعرفة سوى أن يفكروا في حكمته لهذا الاختيار ويسلموا لأوامره. لكنهم سيطرت عليهم حالة من الوهم والكبر خدعتهم بأن منحوا امتياز إلى الأبد دون النظر إلى المسؤوليات التي كانوا مكلفين بها.

لم يقبل بنو إسرائيل بنبوة طالوت، الذي بعثه الله لهم ملكا لطلبهم قائدا من رسلهم، لأنه لم يكن من نسبهم. غير أن ما كانوا يريدونه هو زعيما على دراية بفنون القتال والإدارة ولديه قوة ومهارات فائقة، وهي السمات التي كانت موجودة في طالوت. لكن هذا لم يكن يهمهم أبدا. لكن ألم يكن من المفترض أن يكونوا منفتحين لأقصى درجة على فكرة تقبل التوصية التي تأتيهم من رسلهم الذين قدموا لهم طلبهم هذا بأن يبعث الله لهم ملكا؟

إن هذا الموقف تحول إلى إشكالية كبيرة للغاية في علم اللاهوت اليهودي والفلسفة اليهودية بعد ذلك. الانفتاح على ما كل ما هو آت من الآخرين وحدود الاستسلام لذلك…

فهل بإمكاننا إقامة علاقة مع الآخرين دون محاولة التخلص منه وأوجه اختلافه عنا وخنقه في خضم توقعاتنا وتعريفاتنا؟

علينا أن نلاحظ أننا لا نتحدث هنا عن سياق يعتبر مصطلح الاختلاف عداء، ولهذا فإنه يعتبر التهميش وسيلة من وسائل المعاداة. وفي الواقع فإن مصطلح الاختلاف هنا يعتبر حالة من حالات الحرية المنزهة حتى من تأثير العلاقة. ففي اللحظة التي نبدأ فيها تعريف الآخر ونتوقع منه توقعاتنا ونجبره على التصرف في ضوء هذه التوقعات، فإننا نكون بذلك قد دمرنا مصطلح الاختلاف. فلندع الآخر ليبقى كما هو مختلف عنا.

إن علم اللاهوت اليهودي – في الواقع – منفتح لأقصى درجة على هذه الفكرة. فهو يحاول بعدم ذكر اسم الإله تنزيهه عن تصوراته وتحديداته، فنحن أمام مبدأ التوحيد الذي يعرفه كلنا.

يعرف الجميع أن الفيلسوف الفرنسي اليهودي ما بعد البنيوي الشهير جاك دريدا (الذي يقال عنه في الوقت ذاته أنه كان ملحدا) قد بدأ كلمته خلال مؤتمر حول الصداقة بقوله “ليس هناك مصطلح اسمه صديق يا أصدقاء”. وأما الشيء الذي أراد توضيحه هنا هو أن الذين يعرفون بأنهم أصدقاء يختفون بتحديدهم مسبقا بشكل زائد من خلال توقعاتنا. فنحن لا نطلق على أحد لقب صديق دون أن نجعله في القالب الذي نريده، وبهذا فإننا نقضي على مصطلح الصديق.

ولنتطرق لاحقا إلى هذا الموضوع كذلك.

غير أن بني إسرائيل، الذين كانوا يتمتعون بهذه الخلفية اللاهوتية والمعايير الأخلاقية، عندما أرادوا قائدا من أنبيائهم فقد كانوا ينتظرون شخصا يتبعهم لا شخصا يتبعونه. ولقد كانت “أهواؤهم ورغباتهم” جاهزة لجعل النبي مُلكا لهم وتابعا لـ”رغباتهم في السلطة”. وعندما يأتيهم ذلك القائد، يرى أنبياؤهم هذا ويدركون أن القائد الذين أرادوه لم تعد له مكانة في قلوبهم حتى من قبل أن يأتيهم، وكانوا يقولون “إنكم لن تقاتلوا، بل ستنسحبون بحالكم هذا”.

ذلك أنه كان يعلم أنهم لن يأتيهم القائد الذين يناسب توقعاتهم التي قتلت من سيأتيهم بتشبيهه بأنفسهم. بيد أن الذي كان سيأتيهم كان سيدعوهم أولا لتغيير أنفسهم وتغيير الوضع الذي هم عليه.

وبطبيعة الحالة كان طالوت مختلفا تمام عن الشخص الذين شبهوه بأنفسهم. ولهذا فقد اختلقوا كل الحجج كيلا يعترفوا به عندما جاءهم. “وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا ۚ قَالُوا أَنَّىٰ يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ الْمَالِ ۚ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ ۖ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ”

فما الذي ننتظره نحن اليوم لنخوض كفاحا حقيقيا؟ هل ننتظر شيئا معينا؟ هل نحن مستعدون لاستقبال ما ننتظره عندما يأتينا؟ هل سنتقبل أن نعترف به كما هو؟ أم سنتجنب بسرعة حتى عن الاعتراف به؟

وماذا لو كنا ندمر مسبقا احتمالية قدوم كل ما سيأتينا وفق توقعاتنا والحالة التي نريدها؟

وماذا لو كان ما نتوقعه نفسه يبعدنا عن المسؤولية الكافية للحالة التي نعيشها؟

سنواصل طرح الأسئلة والتساؤلات حول هذا الموضوع.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.