إسطنبول مدينة المآذن الشامخة، تنتشر في جنباتها الأربع وفي شطريها الآسيوي والأوروبي الجوامع والمساجد، التي بنيت منذ فتح المدينة من قبل العثمانيين عام 1453م، لتنطلق منذ ذلك الوقت رحلة تشييد آلاف الجوامع في المدينة.
وعمل السلاطين العثمانيون على بناء الجوامع بأفضل جودة، وبأجمل المواصفات، بالاعتماد على الطراز المعماري العثماني، فتركوا آثارا جميلة من الجوامع الكبيرة المتميزة، والتي باتت معلما لمدينة إسطنبول.
جامع الفاتح، من أهم وأكبر جوامع إسطنبول، يكتسب أهمية لكونه يقع في قلب أحيائها داخل المدينة القديمة، في مرتفع بمنطقة الفاتح، وهو من أقدم الجوامع الكبيرة، التي أمر السلطان محمد الفاتح ببنائها، ويحتضن الجامع ضريح الفاتح أيضا.
ويعتبر الجامع في الوقت الحالي، من أهم المقاصد الإسلامية في المنطقة، حيث يقع في قلب حي سكني، يمتزج فيه المسلمون الأتراك وغيرهم من المقيمين في تركيا، والزائرين لها، ليكون مكتظا في مختلف أوقات اليوم.
**مقصد الجالية العربية
ومع تركز قسم غير قليل من الجالية العربية في حي الفاتح، بات الجامع مقصدا هاما لهم، كما المواطنين الأتراك، فأصبح يحتل في داخلهم مكانة هامة، ويشعرهم بالأجواء الروحانية في مختلف المناسبات الدينية.
وفي 29 أيار/مايو الماضي، افتتح الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، ضريح السلطان محمد الفاتح عقب إتمام أعمال الترميم، متزامنا مع الذكرى 565 لفتح مدينة إسطنبول، بعد أن ظلت عصية على الفتوحات الإسلامية لعدة قرون.
وكانت أعمال ترميم الجامع قد بدأت عام 2007 في واحدة من أوسع الترميمات في تاريخ الجمهورية التركية آنذاك، مستهدفة جميع مرافقه بكامل تفاصيلها، وجرى الافتتاح في ذكرى فتح إسطنبول الـ559 المصادف للعام 2012.
**مدرستا البحرين
كما يعتبر جامع الفاتح أول مسجد يحمل أسماء السلاطين العثمانيين حيث تم إنشاؤه بين عامي 1462-1470 بإشراف المهندس المعماري “سنان الدين يوسف” وكان اسم الجامع بداية بـ”الجامع الجديد” ولكن تم تحويله ليصبح جامع السلطان محمد الفاتح، بعد انتشار الجوامع السلطانية في إسطنبول.
وتم اختيار مكان الجامع على إحدى تلال إسطنبول السبعة المطلة على مضيق البوسفور من الجانب الأوروبي، وقد ألحق بالجامع مدرستان شمالية سميت بمدرسة البحر الأسود، وجنوبية سميت بمدرسة البحر الأبيض لترمز إلى انتشار الحكم الإسلامي آنذاك في البلاد المطلة على البحرين المتوسط والأسود.
وعمل السلطان أثناء إنشاء مدارسه تلك على تأمين كافة الاحتياجات الاجتماعية والنفسية والصحية والتعليمية لطلاب العلم، ورجاله، من خلال المرافق الملحقة بالمدارس، من بينها المشافي والمكتبات ودور الضيافة، وذلك لتشجيع العلم والحض عليه.
وقد توافد خلال القرون الماضية على مدرسة الفاتح كبار العلماء من العالم الإسلامي، من أمثال هزار بك جلبي، وعلي توسون، وعلى كوشتشو، والملا لطفي والملا كورجاني، والمعماري سنان.
إلا أن زلزالا ضرب مدينة إسطنبول عام 1766 دمر الجامع ليعاد بناؤه من قبل السلطان مصطفى الثالث وأعيد افتتاحه عام 1772.
بنيامين توبجو أوغلو، أحد أئمة وخطباء الجامع، قال “الجامع بني من قبل السلطان محمد الفاتح ومن اسمه اكتسب اسم الجامع، وبعد أن بني بمدة صغيرة عاني من حرائق وزلازل فتعرض لتعديلات كبيرة”.
وأضاف للأناضول أن الشكل الحالي للجامع “مختلف قليلا عن السابق، وهو موسع بشكل أكبر، وفي زمن السلطان مصطفى الثالث (1717-1774) اكتسب شكله الحالي بالقرن الثامن عشر، وتم الحفاظ عليه إلى يومنا هذا”.
**مكانة جامع الفاتح
وفيما يخص مكانة الجامع الحالية لدى الأتراك والمسلمين أفاد “من المعلوم أن إسطنبول في العالم كله، لها مكانة مختلفة، وهي بلدة مباركة، والرسول (ص) لديه حديث مبشر بها (فتح القسطنطينية)، ومن أجل البشارة حاول المسلمون كثيرا فتحها، لينالها السلطان الفاتح وليبني جامعا يحمل فيها اسمه”.
واعتبر أن “الجامع يحمل أهمية كبيرة، حيث يتوافد المسلمون من تركيا وخارجها، وكذلك غير المسلمين لزيارته، ويبدون إعجابهم به حيث السكينة والطمأنينة داخل الجامع، والزائرون يتوافدون بشكل مكثف”.
**أقسام الجامع
وحول أقسام الجامع لفت توبجو أوغلو إلى أن “الترميمات الأخيرة استمرت 5 سنوات، وبنتيجتها تم تجديد الجامع بشكل كامل، ومعه تم تجديد المدرستين، قسم منه افتتح لطلاب الماجستير والدكتوراة كسكن للطلاب، والباقي يستمر العمل فيه، وفي الجامع مكان مخصص لتحفيظ القرآن وتنشئتهم”.
وتابع الإمام والخطيب التركي”هناك قسم خاص للسلطان في الجامع بني في القرن الثامن عشر، وهو مخصص لصلاة السلاطين، يخصصون وقتا لهم للذكر وقراءة القرآن والصلاة، وهناك أقسام للنساء، وغرفة لإنتاج الحبر الطبيعي حيث كانت إضاءة الجامع قبل الكهرباء تتم عبر زيت الغاز، والدخان المتصاعد منه عبر التهوية يلتصق في غرفة خاصة ليتم استخراجها من قبل الخطاطين وتحويلها لحبر، من أجل كتابة القرآن الكريم، وهناك مكتبة خاصة حاليا يجري ترميمها”.
**خصوصية فريدة
وعن خصوصية الجامع رغم كثرة جوامع إسطنبول أفاد توبجو أوغلو “منطقة الفاتح تلة من تلال إسطنبول السبعة، يتدفق عليها النسيم العليل بشكل مستمر، كما أن الجامع يقع في حي كبير، ويختلف عن بقية الجوامع، كونه وسط المنازل”.
وأردف “الناس لهم فضول لزيارة قبر الفاتح الذي كان مغلقا بسبب الترميم، والناس يأتون لزيارة الضريح والصلاة والدعاء، كما يتواجد قبور نحو 400 من خيرة قادة الدولة في تلك الفترة، من زوجة السلطان الفاتح والوزراء والقادة والأدباء والعلماء”.
أما فيما يتعلق بالجو الروحاني الذي يضم مختلف الجنسيات الإسلامية، أفاد “نحن ننظر للسوريين كمهاجرين وأنهم بحاجة للمساعدة ماديا ومعنويا، ونسعى لذلك بكل ما لدينا من إمكانيات، فالعلماء السوريون يعطون دروسا في القراءات والتفسير في الجامع في كل صباح”.
وأضاف “أبرز العلماء السوريين يقدمون علوم الحديث والتفسير، إذا وفرنا لهم جوا معنويا، ونتيجة لذلك لدينا تنوع في الجامع، وهناك أيضا تواجد للفلسطيين وغيرهم، ويأتينا زائرون من مختلف دول العالم بشكل مستمر للاطلاع على الجو الروحاني في الجامع، حيث يعجبون به كثيرا”.