الجنوب السوري آخر معاقل الثورة السورية

24 يونيو 2018آخر تحديث :
الثورة السورية
الثورة السورية

غازي دحمان / العربي الجديد

كلّما زادت مساحة سيطرة نظام الأسد على الأراضي تقلصت مساحة التغيير والأمل بانتقال سورية إلى أوضاع جديدة، وعادت الأمور إلى أسوأ مما كانت عليه قبل الثورة، وربما إلى مجهولٍ لا أفق له. وتشكّل منطقة الجنوب، التي تقع اليوم في قلب الخطر، ذروة مرحلة سقوط سورية في هذا المجهول، ليس لرمزيتها فقط في إطلاق شعلة الأمل بعد سوري متحرّر، يملكه أبناء البلد، وإنما لأن الجنوب كان آخر المناطق التي يمكن استثمار وزنها ومزاياها، للمساومة على حل سياسي مقبول، وإن لم يكن مثاليًا، على اعتبار أنها المنطقة الوحيدة التي ما زالت تمتلك مواصفات ثورة سياسية اجتماعية.

استطاعت روسيا، وعبر عملية ممنهجة ومدروسة، إخراج المناطق التي تملك وزناً تساومياً يحقق مطالب الشعب السوري من دائرة الصراع، وليس سرًا أن البداية كانت من حلب، لما تمثله من أهمية سياسية تضع الطرف الآخر في موقع الند السياسي الذي يستطيع فرض شروطه على طاولة المفاوضات، لتكرّ السبحة بعد ذلك، وتسقط جميع المناطق ذات التأثير السياسي، الغوطة ووادي بردى والقلمون وريف حمص الشمالي.

وليس سرًا أن المناطق المتبقية، خارج جنوب سورية، لا تصلح للاستثمار والمساومة السياسية، مثل مناطق شرق سورية وإدلب، فالأولى أصبحت خارج تصنيف التفاوض على شكل النظام القادم، لتدخل في إطار الصياغة السياسية للدولة السورية المقبلة، من حيث الشكل وليس الجوهر، فيدرالية أم مركزية، وإن حل إشكاليتها ليس له علاقة بثورة السوريين ومطالباتهم، بقدر ما هو مرتبط بتوافقات دولية صرفة. أما إدلب، فأصبحت قضيتها ترتبط بقضايا الإرهاب العالمي، نظرًا لوجود جبهة النصرة، أو “فرع القاعدة السوري” كما بات يسمى في التقارير الإخبارية.

لأسباب عديدة، لم تكن تجربة المناطق المحرّرة في الجنوب مشجعة ولا مرغوبة. في النهاية، ثمّة حاجة لدولة تدير شؤونها وتوفر المستلزمات الإنمائية والأمنية والخدماتية لمئات آلاف من السكان، لكنها بالتأكيد ليست دولة نظام الأسد التي كانت، مضافاً إليها عقلية المخبر الروسي الذي لا يرى في سوريي المناطق التي تم إخضاعها سوى إرهابيين مهزومين، ورجل الحوزة الإيراني الذي يريد تعليم أبنائهم الدين الصحيح مقابل عشرة آلاف ليرة للعائلة، كما في ريف حلب.

بالتأكيد، ليست إمكانات المقاومة في جنوب سورية معدومة، كما إمكانية تحقيق تغيير سياسي، لكن الشروط العسكرية والسياسية التي أخضعت المنطقة نفسها لها، لا توحي بذلك، وخصوصا بعد أن دخلت المنطقة وبقوّة في إطار المصالح الإقليمية والدولية وتعقيداتها، وجرى تحييد مصالح سكانها لصالح اعتبارات خارجية، يتم احتسابها بناء على دفتر شروط تلك الأطراف وحسابات التوازنات التي يجب الحفاظ عليها في نهاية مواسم المذبحة السورية.

لا يضرّ الأطراف الدولية والإقليمية المنخرطة في جوقة التسويات الدائرة الآن على رأس الجنوب، مذبحة إضافية، ولا عملية تهجير جديدة لعشرات الآلاف، وترحيل بضعة آلاف جديدة إلى مكب إدلب. المهم أن عملية إخراج التسويات التي سيتم إنضاجها على نار الجنوب الحامية، يجب ألا تحرج بريستيج الأطراف المتفاوضة والراعية للعملية، والأهم يتوجب ظهور المعارضة بمظهر القابل والمستكين للوضع في اجتماعات أستانة وسوتشي، أو حتى جنيف، المقبلة.

في مقابل سحق الجنوب، ستكافأ إسرائيل بإبعاد المليشيات الإيرانية إلى مسافة أمان مقبولة لديها، وسيتم منح إيران فرصة كاملة لنشر التشيع في الجنوب، شريطة ألا تظهر أعلام مليشياتها في المنطقة، وستشرعن أميركا وجودها في شرق سورية إلى حين إقرار النظام الفيدرالي الذي سيكرّس حصتها في سورية، حتى لو بدون قواعد عسكرية مباشرة. أما روسيا فإن مكافأتها الكبرى ستتمثل في تكريس بقاء نظام الأسد إلى الأبد.

ليس هذا ثمنًا عادلاً لفاتورة الدم السوري، وما زال هناك إمكانية للمقاومة وتحقيق الأهداف، أو على الأقل رفض استنساخ تجارب إخضاع المناطق السابقة، لو أن هناك، فعلا، أطرافًا يمكن تسميتها داعمي الجنوب، لكان من غير الصعب الوصول إلى نماذج لتسويات مختلفة، مثل نموذج مناطق الأكراد أو نموذج المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات التركية في الشمال، يمكن تطبيق التجربة التي كانت مصمّمة للتطبيق في حلب، قبل أن تتراجع روسيا عنها، نظام إدارة يعطي للمجالس المحلية دورا في إدارة شؤون المنطقة.

إذا سيطر نظام الأسد على الجنوب سقط الحل السياسي في سورية نهائيًا، وسابقًا كان السوريون يراهنون على عقلانية العالم، أو الأطراف التي ترعى الحرب والحل في سورية، على اعتبار أن من شأن هذا الوضع تعقيد الأوضاع وإدامة الصراع، وبالتالي من غير المنطق أن تقبله هذه الأطراف، انطلاقًا من نظرية أن السلام مصلحة عالمية، وأن الاضطراب في أي بقعة في العالم يؤثر على السلم. غير أن هذا المنطق ثبت عدم واقعيته، فهو ليس أكثر من طقم كلام إنشائي. أما في الواقع، فإن اللاعبين الإقليميين والدوليين لا يهمهم، في نهاية المطاف، سوى مصالحهم، وفي حال تحققها، فإن التعايش مع القتلة ومجرمي الحروب يصبح واردًا، بل تصبح إعادة تأهيلهم أكثر من ممكنة على قاعدة أن ليس في الإمكان أكثر مما كان.

يبقى أنه ليست هناك خيارات للسوريين سوى الصمود في جنوب سورية، لأن القبول بما تفرضه التسويات والتوافقات الإقليمية والدولية ستكون له آثار كارثية تطاول سورية عقودًا، حيث سيشن عليهم نظام الوكيل في سورية، وأسياده الروس والإيرانيون، حرب وجود تقتلع جذوة الكرامة فيهم، وتحوّلهم مجرد أشباح بشر.

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.